المشاريع العربية ذات الرماز (المصدر) المفتوح وتحدياتها

المشاريع العربية ذات الرماز (المصدر) المفتوح وتحدياتها

مقدمة

في عالم تتسارع فيه وتيرة التقدم التقني بشكل لا يمكن تجاهله، يبرز دور البرمجيات الحرة والمفتوحة الرماز كأحد الأعمدة الرئيسية لهذا التطور وأداة حيوية للتعبير الثقافي والابتكار التقني. هذا النوع من البرمجيات، الذي يتيح حرية الاستخدام والتعديل والتوزيع دون قيود تذكر، لا يقتصر تأثيره على النطاق العالمي فحسب، بل يمتد أيضًا إلى الساحة العربية بطرق متعددة ومعقدة. 

أما في العالم العربي، حيث تتشابك الثقافة والتكنولوجيا بأساليب فريدة، تواجه البرمجيات الحرة تحديات متنوعة تحول دون استغلال كامل قدراتها في المنطقة العربية. ظهرت العديد من المحاولات لتأسيس برمجيات حرة عربية الأصل، تنوعت بين الناضج والقاصر، وبين المعمّر والسقط. فما الذي أفشل أو أخر ظهور برمجيات عربية حرة رائدة عالمياً؟ وهل يجب حالياً (أو وجب سابقاً) إيجاد برمجيات عربية حرة أم يكفي الاندماج والاكتفاء بالمشاريع الرائدة عالمياً؟

تتناول هذه المقالة طرحاً سريعاً لواقع البرمجيات الحرة العربية مع التركيز على التحديات التي تواجهها والاستراتيجيات الممكنة للتغلب عليها. من خلال استكشاف هذه الديناميكيات، نسعى إلى فهم أعمق لكيفية تأثير العالم الرقمي على الواقع العربي وكيف يمكن للمجتمعات العربية أن تسهم بشكل فعال في هذا المجال. كما تضع هذه المقدمة الأساس لمناقشة تفصيلية حول تطور وتأثير البرمجيات الحرة في البيئة العربية، مع التأكيد على أهمية هذا المجال والتحديات الرئيسية التي يواجهها.

للتنويه، سأتجنب الخوض في المقدمة التقليدية في تعريف البرمجيات الحرة والمفتوحة الرماز وتاريخها ومساهمتها في تطوير عالم البرمجيات إلى شكله الحالي، وسأسقط الفوارق بين “الحرة” و”مفتوحة الرماز” وأستخدمهم كمترادفات حيثما وردوا.

محاولات سابقة ورائدة

في مطلع الثمانينيات، بزوغ فجر الحواسب الشخصية كان مصحوبًا بتحولات مهمة في العالم العربي نحو توطين التقنية. تأسست في هذا السياق شركة صخر المصرية، وهي الذراع الحاسوبي لشركة العالمية للإلكترونيات الكويتية. تحت رؤية محمد الشارخ، ساهمت شركة صخر في تعزيز الوجود التقني العربي بشكل لافت وسبّاق، من خلال عقد شراكات مع شركات عالمية مثل مايكروسوفت لإطلاق أنظمة تشغيل MSX عربياً.

تتجلى أهمية شركة صخر في تطويرها لعدة مشاريع متقدمة باللغة العربية، مثل محرك الإدريسي للبحث وبوابة جهينة. كما شاركت في إطلاق مواقع إلكترونية مثل عجيب.كوم. لكن بالرغم من هذه الإنجازات، واجهت هذه المبادرات عقبات كبيرة، ما أدى إلى تقلص وجود شركة صخر وتركيزها على نمط معين من البرمجيات العربية المتقدمة في ذلك الوقت. يرجع الشارخ هذا الإخفاق جزئياً إلى عدم استعداد السوق العربي لهذا المستوى من التقنيات.

في العقدين الأخيرين، شهدنا ظهور مؤسسة البرمجيات الحرة العربية في الأردن، والتي أحدثت تأثيرًا ملحوظًا من خلال إطلاق نظام التشغيل “أعجوبة” المبني على نظام لينكس. هذا النظام، مع مجموعته من التطبيقات العربية الأصيلة، يمثل خطوة هامة في تعزيز البرمجيات الحرة في العالم العربي. كما بادر العديد من الخبراء التقنيين العرب لدعم اللغة العربية في الأنظمة الضخمة عالمياً، مثل ترجمة دروبال Drupal، لنكس العربي، “أرابايز Arabeyes” لتعريب الأدوات الأساسية، لينكس العربي، مكتبة بايثون العربية PyArabic، و”غيمب العربية GIMP Arabic”، وآخرون حاولوا إطلاق مشاريع عربية مثل “مضامير Madamira” لمعالجة الكلام بالعربية، وخطوط أميري العربية، بالإضافة إلى ذلك، ظهرت محاولات لكتابة لغات برمجية عربية مثل “زاي” و “غريب” و “خوارزمي” و “جيم” و”الأسس” و”قلب” و”لوغو”.

للأسف، العديد من هذه المبادرات لم تستمر طويلاً، وتوقفت بعد فترة قصيرة من انطلاقها، مما يشير إلى حاجة لدراسة أعمق للأسباب التي تمنع استمرار هذه المشاريع ونجاحها على المدى الطويل.

لماذا لم تنجح؟

على الرغم من وجود مجتمع تطوير برمجيات عريض في العالم العربي، يضم خبرات متفوقة عالميًا وقديمة نسبيًا على الصعيد العالمي، وبالرغم من المساهمات الكثيرة من المطورين العرب في المشاريع مفتوحة الرماز العالمية، إلا أن البرمجيات الحرة العربية واجهت – ولا تزال تواجه – تحديات عديدة أثرت بشكل كبير على نمو ونضج هذه الصناعة في المنطقة.

وفي مسعى لفهم التحديات التي تواجه البرمجيات الحرة في العالم العربي، وبتعقب قصص الإخفاقات أو العوامل التي أدت إلى القضاء على المبادرات الواعدة، نجد العديد من الأسباب التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تثبيط أو إفشال معظم هذه المبادرات. بعض هذه الأسباب تم الإشارة إليها بشكل صريح ومباشر من قبل بعض القائمين على أعظم هذه المبادرات.

من بين الأسباب الرئيسية التي تم تحديدها:

  • محدودية دعم اللغة العربية في الأنظمة والبرمجيات.
  • النقص في المهارات والخبرات التقنية المتخصصة لدى العرب.
  • عدم انتشار التقنية إقليميًا.
  • عدم وجود اهتمام حكومي أو مؤسسي.
  • صعوبة التواصل بين أعضاء الفريق أو المهتمين لأسباب تقنية أو تنظيمية أو مالية.
  • ضعف الوعي بأهمية ومستقبل التقنية.
  • ارتفاع التكاليف وتدني الاقتصاد.
  • قلة التعاون والعمل الجماعي.
  • تحديات متعلقة بالترجمة والتعريب.
  • نقص البنية التحتية التقنية.
  • مقاومة التغيير الثقافي.
  • قيود الملكية الفكرية والقانونية.
  • ضعف القناعة والإيمان بأهمية وجود تحرك بهذا الاتجاه مع تبني لفكر التغريب.
  • التعنت والشعوبية ورفض التعاون الإقليمي.

وبإغفال العوامل غير المباشرة، تلك المتعلقة بالمناخ السياسي والأخلاقي والمالي العام في المنطقة أو الخاص في بعض الدول، والتي تؤثر على كافة نواحي تقدم المجتمع، يتبقى لدينا مجموعة من الأسباب يمكننا أن نصنفها في ثلاث كتل رئيسية: تقنية، ثقافية، وتنظيمية.

يجدر بالذكر أن العوامل لا تؤثر فرادى، وإنما بشكل متضافر ويغذّي بعضها بعضاً، مما يزيد من الأثر السلبي لأي منها منفرداً. فعلى سبيل المثال، يؤدي ضعف الاهتمام الحكومي أوالمؤسسي إلى نقص في المهارات والخبرات التقنية المتخصصة، وهكذا.

التحديات التقنية

التحديات التقنية تمثل عقبة كبيرة في تطوير مجتمع البرمجيات الحرة العربية. وهذا يعود بشكل أساسي إلى تأخر دعم اللغة العربية من حيث الكتابة، الإظهار، الترجمة، والخطوط، بالإضافة إلى قلة المطورين المتخصصين.

دعم اللغة العربية

تنتمي اللغة العربية إلى عائلة اللغات متصلة الحروف المرتكزة إلى اليمين مع بعض الخصوصيات الأخرى. بسبب طبيعتها وأسباب أخرى تقنية بحتة أو مالية، عانت العربية من الإهمال إبان الفجر الرقمي حيث كان التركيز على اللغة الإنجليزية واللغات اللاتينية بطبيعة الحال، ثم اللغات التي يساهم أهلها في دفع عجلة التطور الرقمي بشكل كبير أو التي تمثل سوقاً مجدياً للشركات الراغبة في الربح. وقد ظهرت بعض المحاولات السباقة في توطين العربية في الأنظمة وكان لها الفضل في أي ظهور مبكر للعربية رقمياً، ولكن لم يكتب لمعظمها أن يستمر. 

الخبرة والتخصص

في بدايات النهضة الرقمية الحديثة، كان تطوير البرمجيات يتطلب فهمًا عميقًا لأنظمة تشغيل الحاسوب على مستويات دقيقة وتفصيلية، الأمر الذي أخّر دعم اللغة العربية رقمياً بسبب ندرة الخبرة والتخصص في منطقتنا وقلةّ الحاجة إلى مثل هذا التخصص ابتداءً باعتبار طبيعة السوق المستهلكة غير المنتجة. فقد كان امتلاك هذه الخبرة والتخصص يتطلب – بالإضافة إلى الإيمان بقضية دعم اللغة العربية – إلى العملَ الشخصي الجانبي الجاد دون مردود لانعدام الحاجة محلياً إلى مثل هذه الخبرات، أو الانتقالَ إلى دول غير عربية حيث تتوفر الحاجة والوظائف الملائمة وتنعدم الحاجة إلى دعم اللغة العربية. 

تشبيك وتواصل المهتمين

مع محدودية وسائل التواصل، لم يكن تشبيك المهتمين في المنطقة أمرًا سهلًا، على عكس الغرب الذي توفر فيه مجتمعات برمجيات حرة تتواصل فيزيائيًا بسهولة، بسبب الدعم المؤسساتي الذي سهّل توصيل وتشبيك المهتمين، وقدم لهم الأدوات اللازمة لذلك.

جسر الهوة التقنية

مع مرور الزمن، تم جسر هذه الهوة التقنية، إمّا بأيدي القلة الخبيرة التي عملت جاهدة لتوطين التقنية عربياً، أو بأيدي الشركات التقنية العالمية لأهداف ربحية، أو بأيدي المنظمات العالمية لأهداف تنظيمية بعد ضغط الواسع من جماهير المهتمين من اللغات المهمشة ومنها العربية يطالب ببناء نظام ترميز عالمي موحد. إلا أنّه بحلول هذه المرحلة، كان الوقت قد فات لبناء أنظمة عربية منافسة للعالمية، فقد انتشر تبني الأنظمة العالمية السائدة في المنطقة العربية وظهرت حركتان قويتان منافستان: التغريب والتعريب عوضاً عن الإنشاء والتأصيل، فلم يعد من المفيد إعادة بناء نظام عربي.

عدم الاستمرار

تولّد البرمجيات حاجة إلى تطوير مستمر وصيانة ممنهجة لتبقى قابلة للاستعمال. يمثّل هذا الأمر أحد أكبر التحديات للبرمجيات الحرة عالمياً، خاصة في ظل نقص الموارد والخبرات التقنية المتخصصة. يتطلب هذا التحديث المستمر توفير موارد كافية وإشراك مجتمع من المطورين النشطين لضمان تحديث البرمجيات وتطويرها باستمرار.

التوثيق والدعم

غالبًا ما تفتقر البرمجيات في العالم العربي إلى توثيق شامل ومفصل باللغة العربية، مما يجعل من الصعب على المستخدمين فهم واستخدام هذه البرمجيات بكفاءة، ناهيك عن متابعة تطويرها كجهد مجتمعي كما ينبغي في البرمجيات الحرة. كذلك، تقديم الدعم التقني باللغة العربية يمثل تحديًا آخر يحتاج إلى عناية خاصة.

التحديات الثقافية والاجتماعية

أعاقت العوامل الثقافية والاجتماعية العمل الجماعي التشاركي في العالم العربي بأشكاله المختلفة. فحتى حين تحلحلت العقد التقنية إلى حد ما، كانت المجتمعات الشبيهة عالمياً قد أنضجت أساليب وتفاهمات مختلفة تسمح للمشاريع مفتوحة الرماز بالتعملق. ولكن وجود مذاهب واختلافات ثقافية واجتماعية فردية أو جماعية أو مجتمعية كثيرة، منعت تبني ذات المفاهيم والأساليب إقليمياً، وبالتالي ظهور مشاريع عربية شبيهة تنافس مثيلاتها عالمياً.

بالبحث في العوامل الثقافية التي ألجمت المشاريع الحرة الرائدة في عالمنا، نجد خمسة عوامل رئيسية: هي قلة الوعي بأهمية المشاركة في المشاريع مفتوحة الرماز، والتحفظ حول مشاركة الرماز البرمجي والمشروعات مع الآخرين، ونقص الإيمان بين التقنيين العرب بأهمية وجود مشاريع عربية، وضعف ثقافة العمل الجماعي التشاركي، والاختلاف حول نقل الاصطلاحات والمصطلحات إلى اللغة العربية.

نقص الوعي والقناعة بأهمية المشاركة في البرمجيات الحرة

أحد أبرز التحديات الثقافية والاجتماعية التي تواجه البرمجيات الحرة في العالم العربي هو قلة الوعي بأهمية وقيمة هذه البرمجيات. ينبع هذا النقص في الوعي من عدم القناعة بأهمية دعم اللغة العربية وتطوير برمجيات تعتمد عليها، وكذلك عدم فهم فوائد البرمجيات المفتوحة الرماز وتأثيرها على التقدم التقني والثقافي.

مقاومة التغيير والاحتفاظ بالرماز البرمجي

في العديد من الدول العربية، يوجد تحفظ عام تجاه تبني أساليب ونماذج جديدة في مجال التكنولوجيا، وهذا يشمل البرمجيات الحرة. هذه المقاومة للتغيير تعيق الابتكار وتحد من اعتماد البرمجيات الحرة كحلول فعالة ومستدامة. 

كمثال على مقاومة التغيير وكيفية تأثيره سلباً على دفع عجلة تحرير البرمجيات، يؤمن الكثير من أرباب العمل بأهمية البرمجيات المغلقة لتحقيق ربح مالي، ولا يستطيعون استيعاب كيف يمكن لتحرير البرمجيات والعمل المفتوح أن يولّد دخلاً ويحقق قيمةً قد تفوق مثيله المغلق.

الأثر الآخر السلبي للاحتفاظ بالرماز البرمجي هو الاضطرار إلى إعادة اختراع الدولاب، وعدم الاستفادة من دروس الآخرين وخبراتهم، وبالتالي الحد من التعلم والابتكار المشترك.

نقص الإيمان بأهمية وجود مشاريع عربية

برأيي، هذا العامل هو الأخطر، حيث أنه يتجاوز التحديات التقنية والاجتماعية والتنظيمية والمالية إلى القناعات والبنية النفسية، وقد صادفت خلال البحث والعمل الكثير من التقنيين الأكفاء ولكنهم لا يرون جدوى من محاولة تأصيل العربية رقمياً، ويسلمون بشكل مطلق بسلطان اللغات الأجنبية في عالم التقنية. ومهما تكون نسبة الصحة في هذه القناعة إلا أنها تعبر عن انهزام نفسي حاد وقصور في فهم أهمية توطين التقنية وتأصيل العربية فيها في الحد من آثار هذا الانهزام.

تتراوح آثار هذه الهزيمة حسب مداها بين من يرى أهمية العمل على تعريب البرمجيات الحرة فقط دون النظر إلى ملائمتها لخصوصية اللغة العربية (مثل تعريب أسماء النطاقات العربية إلى “بريدي.شبكة” مماثلة للرديف الإنجليزي “bareedi.net” بدلاً من استخدام البنية العربية للجمل التي تفترض أن يكون النطاق “شبكة.بريدي” مثلاً)، وبين من لا يرى الحاجة إلى بناء العربية في الأنظمة إطلاقاً والاكتفاء بتعلم أبناء العربية اللغات الأجنبية ليستخدموا التقنية.

ضعف ثقافة العمل الجماعي التشاركي

ثقافة العمل الجماعي التشاركي، التي تعد حجر الزاوية في تطوير البرمجيات الحرة، لا تزال غير منتشرة بشكل واسع في العالم العربي. النهج الفردي والتركيز على النجاحات الشخصية يحد من قدرة المجتمعات على التعاون وبناء مشاريع تقنيّة ناجحة ومستدامة. ولو اعتبرنا أن أساس عمل الفرق في الشركات الربحية يتطلب قدراً من العمل الجماعي، إلا أننا نتحدث عن المبادرة في العمل الجماعي والتماهي ضمن الفريق والانضباط بضوابطه، وكذلك تقبل الدخلاء والانفتاح على الخارج، وعدم التشبث بالزمام.

يجدر ذكر أن ضعف ثقافة العمل الجماعي التشاركي يلقي بظلاله وآثاره في نواحي الحياة الأخرى كذلك، فمن الموسوعات الحرة، إلى المبادرات المجتمعية، ومن منظمات المجتمع المدني إلى مشاريع البحث والتطوير، كلها تحتاج إلى قدر من التخلي عن الفردية والعمل ضمن فريق، وهو الأمر الذي نرى نجاحه في الدول السابقة في المجالات التي سلف ذكرها بقدر كبير.

داخل هذه الظاهرة، قد تتضافر العديد من الأسباب التي تحتاج إلى دراسات متخصصة في علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والتقنية والقيادة وغيرها.

الاختلاف حول المصطلحات والاصطلاحات

مشكلة نقل المصطلحات والاصطلاحات إلى العربية ليست جديدة كليّاً وإنما بدأت في بدايات القرن السابق حينما بدأت الكليات والجامعات المختلفة في عملها على استيراد العلوم، فنحت منحيين رئيسيين: تدريس العلوم بلغاتها الأجنبية، أو ترجمتها وتدريسها باللغة العربية كما نرى في العراق وسوريا والسودان، وظهرت بالنتيجة المدارس والطرق المختلفة في ترجمة المصطلحات أو إنشائها أو استخدام بدائلها، وتعمقت الخلافات بين المدارس واللجان والمجمعات حتى أصبح الأمر أشبه بالمتاهة لمن أراد أن يحيط به أو يعمل عليه.

ظهرت كذلك العديد من الجهود الفردية أو المؤسسية (شبه الفردية كذلك بشكل ما)، التي عملت على إنشاء معاجم تقنية ونشرها وإتاحتها للاستخدام، ولكن بحكم العامل السابق (ضعف ثقافة العمل الجماعي التشاركي)، فقد كانت الكثير من هذه الجهود تهدر في اتجاهات خاطئة، أو تتعامل مع النتائج لا مع الأسباب، وبقيت المنطقة بحاجة إلى كيان متخصص جامع يأخذ على عاتقه هذه المهمة وينشئ من أجلها التحالفات والتنظيمات الملائمة، ويقوم بالمراسلات للحصول على الاعتمادات.

استباقاً لأي طعون أو آراء هنا، أحيل القارئ الكريم إلى الاطلاع على تجربة فرنسا والصين وروسيا في توطين المصطلحات والاصطلاحات، وكيف نجحت هذه التجارب وأدت إلى تأصيل لغاتهم في العلوم التقنية والرقمية، ومن ثم تسهيل دراستها ومخر عباب بحورها على الناطقين بهذه اللغات.

كخلاصة، العاملان الأوليان يحتاجان إلى بناء ثقافة سلوكية معينة تجاه البرمجيات والمنتجات الفكرية ربما يكون الغرب قد سبق إليها بسبب عمق خبرته في هذا المجال بشكل أكبر، وهما سببان للعاملين الثقافيين الاجتماعيين التاليين، والذين يحتاجان بدورهما إلى بناء خبرة في الأدوات والأساليب والمخرجات، ضرورية حتى ينجح المشروع بعد أن يشب عن مهده. أما العامل الأخير فهو عامل مشترك في أسباب التأخر العلمي والثقافي العربي إجمالاً، ويحتاج إلى تضافر جهود فردي، واجتماعي، ورسمي، وإقليمي حتى يتم التغلب عليه بشكل سليم.

التحديات التنظيمية

على الرغم من الأثر الواضح للبرمجيات الحرة عالمياً، إلا أن واقع تقنية المعلومات في منطقتنا تظهر تأخراً في تبني الفلسفة الحرة في مختلف المستويات. يتطلب نجاح انطلاقة البرمجيات الحرة العربية بشكل صحيح، إلا إيمان الحكومات والجهات الرسمية والمنظمات الكبيرة في العالم العربي بأهمية دعم المشاريع الحرة الإقليمية بشكل خاص والاستثمار غير الربحي في البحث والتطوير فيها، وتأسيس سياسات واضحة تشجعها وتدفعها إلى الأمام. هذه العوامل ضرورية لترسيخ دور وثقافة البرمجيات الحرة وقدراتها، وتأخر هذا الإيمان أو ارتباطه بالعامل الاقتصادي فقط، سيقلل من جدوى أي عمل جماعي في المصادر المفتوحة العربية. وقد كان هذا العامل السبب الأهم في اندثار بعض أهم المبادرات في هذا المجال.

قلة الدعم الحكومي والمؤسسي

واحدة من أكبر التحديات التنظيمية التي تواجه البرمجيات الحرة في العالم العربي هي قلة الدعم من الحكومات والمؤسسات الرسمية. يعتبر الاستثمار في البرمجيات الحرة أمراً غير منظم ومفهوم في العديد من الجهات الرسمية التي تطلب جهة راعية وداعمة للمشروع لتقديم أي دعم تقني وتلافي أي أعطال قد تحدث، مما يؤدي إلى تحول التمويل الحكومي إلى البرمجيات المغلقة بشكل شبه مطلق.

بالرغم من الفوائد المغرية للانتقال إلى البرمجيات الحرة، وبالرغم من ضعف حجة الدعم الفني بوجود الكثير من الجهات التي تقدم إلى المؤسسات التي تطلبه دعماً عالي المستوى للبرمجيات الحرة بشكل مدفوع، إلا أن الأمر لا يزال غير مقبول نظرياً ولا تزال الجهات الضخمة تثق بالبرمجيات المغلقة بشكل أكبر حتى الآن.

عميقاً، أعتقد أن السبب الحقيقي يكمن في أن الحكومات والمؤسسات الضخمة تتصرف كمستهلكة للتقنية، ولا تستثمر بشكل كاف في إنشاء مراكز أبحاث ودعم تقني وطنية أو إقليمية تسهل عملية الانتقال وتزيد من الثقة والطمأنينة اللازمة لإتمامها.

البيروقراطية والقيود القانونية

تواجه المشاريع الحرة في العالم العربي تحديات تنظيمية تتعلق بالبيروقراطية والقيود القانونية، التي يمكن أن تعيق الابتكار وتطوير هذه المشاريع. تشمل هذه التحديات قوانين الملكية الفكرية والتراخيص والقواعد التنظيمية التي لا تتوافق دائمًا مع مبادئ البرمجيات الحرة.

يدعم هذا العامل بشكل غير مباشر العاملَ السابق من حيث أن مسؤولي مؤسسات الدولة التنفيذيين يميلون إلى التخلص من تبعات القرارات التقنية بتحميل كلفة إضافية باهظة مقابل الدعم والمساعدة، وحتى في حال وجود إيمان من قبل هؤلاء الأفراد بقدرات البرمجيات الحرة (التي لم تعد خافية على أحد استطلع عالمها)، إلا أن هذا القرار يحتاج إلى دعم المستويات الإدارية العليا، وربما إلى تغييرات جذرية في التوجهات والفكر الحكومي، الأمر الذي يتطلب عملية طبخ طويلة المدى للفكرية التقنية في المؤسسات الضخمة والحكومية.

نقص البنى التحتية التقنية والتعليمية

شخصياً، كان هذا العامل أحد أكثر العوامل التي عانيت منها وعانت منها شركتنا. فالعالم العربي يعاني من نقص في البنى التحتية التقنية والتعليمية التي يمكن أن تدعم تطوير البرمجيات الحرة.

يشمل النقص المعاهد التعليمية والبرامج التي تركز على تطوير المهارات اللازمة للمشاركة في المشاريع المفتوحة الرماز وتطوير البرمجيات الحرة، وعلى إدخال البرمجيات الحرة في المناهج الدراسية التأسيسية أو في المناهج الأكاديمية.

كذلك يشمل النقص تأسيس مراكز بحث وتطوير في المؤسسات القادرة والرائدة، وكذلك مراكز ائتلافية تشاركية بين المؤسسات وطنياً أو إقليمياً على غرار مركز سيرن CERN، تشرف على التواصل مع الهياكل التنظيمية العالمية التي تؤسس وتراجع المعايير والمواثيق التقنية القياسية وتترشح إلى مراكز مهمة فيها تساعد على اتخاذ القرارات بشكل يدعم اللغة العربية.

بالإضافة إلى ذلك، يفتقر العالم العربي إجمالاً إلى وجود خدمات سحابية محلية أو إقليمية متاحة للعامة مثل خدمات مايكروسوفت Azure أو سحابة غوغل Google Cloud أو خدمات أمازون السحابية AWS أو خدمات علي بابا أو IBM أو غيرهم، علماً أن البنية التحتية في بعض الدول تسمح بإنشاء خدمات شبيهة، ولكن تبنية مشروع مشابه يحتاج إلى أكثر من بنية تحتية عتادية.

خلاصة، التحديات التنظيمية تشكل جزءًا مهمًا من العقبات التي تواجه تطوير البرمجيات الحرة في العالم العربي. تغلب هذه التحديات يتطلب تغييرًا في السياسات الحكومية والمؤسسية، بناء بيئة تنظيمية أكثر مرونة تدعم الابتكار والتطوير التقني، وتحسين البنى التحتية التقنية والتعليمية.

إزالة العقبات

علينا أن ننتبه إلى أن العالمين الرقميين: الحر والمغلق، يشتركان في معاناتهما من العديد من العوامل السابقة، وإزالة هذه العقبات ستسهل دفع العجلتين إلى الأمام على حد سواء. 

ورغم التحسن الكبير في الوقت الراهن فيما يتعلق بالعقبات والعوامل السابقة، إلا أن الجهود اللازمة لتمهيد الطريق لانتفاضة تقنية رقمية عربية لا تزال كبيرة وكثيرة، وتتطلب تضافراً إقليمياً، وحكومياً رسمياً، ومؤسسياً مجتمعياً، واجتماعياً فردياً، للعمل على إزالة العوائق.

  • أولاً، ينبغي تعزيز الوعي والتعليم حول أهمية المشاركة في صناعة الواقع الرقمي ثم في صناعة البرمجيات مفتوحة الرماز، بدلاً من الجلوس في مقاعد المتفرجين.
  • ثانياً، ينبغي إقامة ورشات عمل وتدريبات ضخمة لتطوير المهارات وإكساب الجيل اليافع الأدوات والقدرات اللازمة للمساهمة في مشاريع مجتمعية ذاتية التنظيم.
  • ثالثاً، ينبغي على المؤسسات والشركات العاملة في تطوير البرمجيات أن تشارك بقدر ما، قل أو كثر، في دعم المشاريع العربية الحرة، ويفضل التضافر على التنافس في هذا المجال لخلق واقع أفضل من الحالي.
  • رابعاً، ينبغي على الحكومات والمؤسسات الرسمية أن تشجع على دعم هذه المشاريع، وأن تنشئ الآليات اللازمة لدفع وتبني المصادر الحرة الإقليمية، مثل إنشاء الحاضنات ومسرعات الأعمال الرقمية، وإقامة المسابقات والجوائز المتخصصة بهذا المجال.
  • خامساً، ينبغي أن تعمل المؤسسات البحثية والأكاديمية والتقنية الإقليمية الرائدة على إنشاء هيكل إقليمي تآلفي غير رسمي، يعمل على اقتراح التعديلات على المعايير القياسية العالمية لتدعم العربية بشكل أصيل، وعلى دفع وتشجيع عملية التطوير الحر للبرمجيات بشكل واسع النطاق كحراك جماهيري بدلاً من كونها رفاهية لبعض الناس. وينبغي أن تدفع كذلك باتجاه الشراكات العالمية مع منظمات البرمجيات الحرة الرائدة.
  • سادساً، ينبغي على الجهات الربحية المستفيدة، وعلى مراكز دعم الأبحاث، وعلى الصناديق الاستثمارية والسيادية، وعلى الجهات الحكومية المنظمة للاقتصاد، أن تعمل على توفير وتخصيص كتلة مالية للاستثمار في البحث والتطوير والابتكار في مجال البرمجيات الحرة العربية، لتسمح بإنشاء قوة تقنية رقمية خبيرة في هذا المجال تصلح للمنافسة العالمية والريادة الإقليمية.
  • سابعاً، ينبغي على العاملين في مجال البرمجيات الحرة العربية إنشاء منصات تبادل المعرفة لتبادل الرماز والخبرات وأفضل الممارسات في مجال البرمجيات الحرة، مما يسهل التعاون والتعلم المشترك، والإبداع والتآلف في تطوير البرمجيات الحرة.
  • ثامناً، ينبغي على الجهات الرسمية، وشبه الرسمية، والمجتمعية، والمؤسسات الضخمة، تبني الحلول الرقمية المحلية بقدر المستطاع ودعم المجتمعات البرمجية الحرة والمبادرات المحلية بالقدر والطريقة الممكنة.

هل تأخر الوقت؟ وعلى ماذا تأخر؟

قبل الإجابة على السؤال، أود الإشارة إلى البعد الآخر الخفي للبرمجيات الحرة في العالم العربي! عالمياً، تتوقف أهمية البرمجيات الحرة عند أبعادها التقنية والمالية والثقافية، أما في العالم العربي، فتتجاوز أهمية هذه البرمجيات التي تتيح حرية الاستخدام والتعديل والتوزيع، الأبعاد التقنية لتمثل مقياساً مهماً آخر للواقع العربي. فنظراً لخصوصية المنطقة العربية الجغرافية والثقافية والتاريخية، حيث لا يوجد كيان جامع للمتحدثين بها في أكثر من 22 دولة، ولا هيكل سياسياً واحداً يجمعها، وبحكم الواقع الاقتصادي والمعيشي المتوسط أو المتدني للمعظم والواقع السياسي غير المستقر، مثّل الفضاء الرقمي منطقة للهرب خارج هذه الضغوط والحدود والنطاقات للشعوب وأفرادها، وتسمح بعبور الحدود السياسية وتكوّن فرصة للعمل الوثيق لفرق متعددة الدول متشابهة اللغة. فكانت وباتت البرمجيات الحرة تعكس واقع العلاقات العربية الراهن وتقيس التشتت والانقطاع بين شعوب المنطقة ونخبها بشكل وثيق بعيداً عن المفروضات الفيزيائية، شأنها شأن أي مجال علمي نخبوي آخر.

تجيب هذه المقالة بشكل جيد على المقطع الثاني من السؤال. فالنجاح الأكبر لعمليات استجلاب وتعريب الأنظمة الحرة العالمية مقارنة بإنشائها، يعزز بديهة عدم جدوى المنافسة هنا دون سبب مقنع وجَلَد على المتابعة فيها، الذي يصل بنا إلى إجابة المقطع الأول من السؤال: قد يكون الوقت قد تأخر الوقت على إنشاء الكثير من أنواع الأنظمة الحرة بسبب انعدام الحاجة في ظل وجود بدائل عالمية معرّبة. على الرغم من هذا:

  • لم يتأخر الوقت على ابتداع أنظمة حرة تقدم حلولاً لمشكلات أو تقوم بخدمات لا تزال الحاجة إليها قائمة إقليمياً أو عالمياً.
  • لم يتأخر الوقت على إنشاء حلول لها بدائل عالمية ولكن لا تناسب خصوصية العربية منطقة ولغة وثقافة.
  • لم يتأخر الوقت على تبني واستجلاب وتعريب الأنظمة الحرة العالمية المفيدة والمجدية بحيث تساهم القوة التقنية العربية في تقليمها وتثبت نفسها عالمياً في تطويرها ودعمها.
  • لم يتأخر الوقت على دفع التطور التقني الرقمي العالمي إلى الأمام ودخول العربية مضمارات المنافسة الساخنة والحية، بحلول حرة على عتبات حدود التقنيات الرقمية الحالية، تعطي العربية والعرب نقاطاً رابحةً وتضعهم على الخارطة الرقمية مجدداً.

ولكن، عند بذل أي جهد، ينبغي العمل على توفير أسباب النجاح اللازمة بدلاً من إهدار الجهد والوقت عشوائياً واعتباطياً. فكلمة “الحرة” أو “مفتوحة الرماز” في البرمجيات ليست عصاً سحريةً لاستجلاب الدعم أو لدفع الفشل. وينبغي النظر إلى أي مشروع مهما كان من مناظير مختلفة للتأكد من وجود فسحة له لينشأ وينمو في عالم تزدحم فيه العمالقة ولا يراعي فيه الزمن أحداً بسبب حسن نيته أو سوء حظه.

ماذا عن “رؤى”؟

اعتمدت شركتنا منذ بداياتها نهجًا يرتكز على البرمجيات الحرة. هذا الاختيار لم يكن بهدف التوفير المالي فحسب، بل لبناء الخبرات اللازمة ضمن فريقنا لإطلاق سلسلة من المشاريع الرقمية، سواء كانت تقنية أو غير تقنية. “الأصالة” هي إحدى القيم الأساسية في شركتنا، حيث نسعى للعمل على تأصيل العربية في التقنية وتوطينها إقليميًا.

تُظهر المقالة بوضوح أنه قد تأخر الوقت لإطلاق أنظمة ضخمة لمجرد المنافسة. في “رؤى”، نركز على الجودة التقنية والهدف من المشاريع، وليس فقط على المشاركة، ونحن بصدد إطلاق عدة منتجات تقنية عربية أصيلة ومعربة إن شاء الله، باكورتها “بريدي”، وبعون الله نهدف إلى التحول بالكامل إلى هذه الأنظمة داخل الشركة بحلول نهاية النصف الأول من السنة القادمة انتقالاً من الأنظمة العالمية السائدة كخدمات الأعمال من غوغل أو إدارة موارد المؤسسة أودو أو غيره، وسننشر مقالاً عن تجربتنا حينها.

كذلك، قمنا بعقد بعض الشراكات المحلية والإقليمية في سياق تأصيل العربية التقنية وتعريب التقنية، ونحن مستعدون ومتطلعون للتعاون والتكاتف مع الجهات التي تشاركنا القيمة والهمّ والهدف ذاته.

2تعليق على المقالة

  • หนังxxxออนไลน์ شهرين

    Its not my first time to pay a visit this website,
    i am visiting this web page dailly and take good information from here daily.

    رد
  • w69สล็อต شهرين

    Do you have a spam issue on this site; I also am a blogger, and
    I was wondering your situation; many of us have developed some
    nice practices and we are looking to trade methods with others,
    be sure to shoot me an e-mail if interested.

    رد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.